Beruflich Dokumente
Kultur Dokumente
مقاالت .
خالد ترمانيني
يشترك كل من المؤلف والمؤدي (العازف أو المغني أو قائد الفرقة) والمستمع في خاصية اإلبداع الموسيقي ،ألن
بأخرى. أو بطريقة وإخراجه الفني، العمل خلق في يشتركون ثالثتهم
فالمؤلف يقوم بعملية اإلبداع األولى ،ثم يأتي دور األداء ،فيقوم العازف مثال بإعادة الخلق واإلبداع للحن الذي
وضعه المؤلف ..والذي ال يوجد وال يسمع بمعزل عن العازف ..واألداء هنا هو اشتراك في اإلبداع مع المؤلف ..
ألن اللحن يخرج إلى السمع من خالل العازف وفهمه وتكوينه وتجاوبه العصبي والحسي .وأخيرا فإن المستمع
يشترك مع كل من المؤلف والعازف في عملية اإلبداع الموسيقي وهو الذي يحكم على جودتها وفقا لتكوينه
الموسيقي. اإلبداع عملية في يشترك لذلك فهو وظروفه.
إن هذا الفن السمعي العظيم هو الوحيد بين الفنون الذي ال يوجد إال بثالثة هم المؤلف والعازف والمستمع ،وال
تكون له قيمة على اإلطالق عند تغيب أي من هذه العناصر الثالثة .وفي بعض األحيان يكون المؤلف هو نفسه
العازف .وهذا ال ينفي أن عمل المؤلف يمر حتى في هذه الحالة بمرحلتي التأليف وإعادة التأليف أي األداء.
العقل هو وحده الذي يتحكم في عملية اإلبداع الموسيقي بجوانبه المختلفة .وهو وحده الذي يتحكم في اإلحساس
وفي الذاكرة ،والذي يفرق بين اإلنسان والحيوان ..فما بالكم باإلنسان الفنان ..ال بد أن يكون له عقل متكامل.
واإللهام ،بالمعنى المتداول ،يلغي العقل ويفرض سيطرة الغيبيات .يقال مثال عن أسلوب عصر معين إنه “اللغة
الموسيقية العامة لهذا العصر” .وبمجرد أن يتمكن المستمع من الوصول إلى المعنى الموسيقي فإنه يصبح قد خطا
في الطريق المؤدي إلى معرفة األساليب الموسيقية المختلفة واإلحساس بها بلمحة سريعة.
الصوت الموسيقي هو األساس الذي تبنى عليه نظرية “عالمية اللغة الموسيقية” .وبخالف الصوت فان هناك
قانون التنظيم الداخلي للبناء الموسيقي ،وأيضا توجد قوة التأثير الموسيقي على المستمع التي تحرك فيه المشاعر
وتفجر األحاسيس وتستدعي الخبرات والتجارب ،وتعيد الذاكرة في ما يختص بأحداث وأحاسيس ترتبط باللحن
موضوع التذوق.
والعصر يطبع اللحن ببصمة معينة تميز التشكيل العلمي والوجداني التلقائي له ،الذي يتجسد في األنماط والقوالب
الموسيقية .وإلى جانب العصر ،فهناك البيئة التي تلعب دورا رئيسيا في تكوين وتشكيل عقل المؤلف نفسه وحسه
الموسيقي .وفي الواقع ،فإن سمات مميزة عديدة تظهر في فنون كل عصر وتوحد بين مالمحها العامة وأسلوب
بنائها وفكرها ،وأيضا تعبيرها ،وهذه السمات هي التي تميّز ما يسمى باللغة الموسيقية لهذا العصر أو ذاك.
إن هذه اللغة تضم بين مفرداتها الموسيقية مقامات معينة ترتبط بالعصر ،وتآلفات هارمونية لم تكن معروفة أو
غير مستعملة في العصر السابق مثال ..الخ .وبتفهم وسائل التعبير الموسيقي العام لكل عصر ،يتمكن المستمع
الجاد من متابعة أي عمل موسيقي ينتمي إلى أحد العصور الموسيقية الرئيسية .وبإيجاز تام ،فإنه سيعرف مقدما
الكثير عما يستمع له ،حتى ولو كان هذا االستماع يتم لعمل موسيقي لم يألفه من قبل .ويجعل اإلنسان أكذوبة ،بال
إرادة وال وجود ..وكم سمعنا وعايشنا مؤلفي الموسيقى ..وهم يجاهرون بأن الموهبة وحدها واإللهام البعيد عن
التحكم والمتابعة وراء خلق هذا اللحن العظيم أو تلك الدرة الموسيقية ..وهم قد يكونون صادقين ..ولكنهم إن
صدقوا ..فال يمكن أن يكون إبداعهم الموسيقي سوى خرافة وجنون ..وال تكون مؤلفاتهم سوى تخلف وبدائية
وانحطاط .ومن البديهي أن هذا الطراز من الموسيقيين ،هم فقط ذوو الثقافة الموسيقية الضحلة..إن كانت لديهم
ثقافة على اإلطالق.
ولألسف فإن هؤالء يسمعون أنفسهم ويتخيلون المجد واإلبداع ..ويحكمون على عبقرياتهم بآذان عفنة ونفوس
مريضة .اإللهام إن وجد ..هو وليد العقل والسيطرة والتحكم ..وهو وليد الدراسة والثقافة .أما الذاكرة الموسيقية،
التي هي العقل الموسيقي ،واإللهام بمعناه العلمي فهي التي تحفظ الثقافة والخبرات والقدرات في العقل الباطن
للفنان .وهي التي تؤلف ما يريد من ألحان بمجرد تفكير المؤلف فيها واستدعائه لذخيرتها العلمية والحسية .وليس
الحس سوى انطباع عقلي مصحوب بالخيال.
تفشت عادة تعاطي المخدرات بين طبقة من الموسيقيين بهدف اإلبداع الموسيقي ..في الوقت الذي يجب تناول
المؤلف المنشطات لمراكز العقل – وأقول ذلك مجازا -تلك المراكز التي تتحكم في الحس والشعور والذاكرة.
وعندما نلغي نشاطات العقل فإننا نلغي اإلمكانيات الصحية للتأليف الموسيقي ويصبح اإللهام خرافة وتخلفا وأكذوبة
وتعفنا.
هناك تجارب عدة قام بها الزمن والتاريخ وراجعها العلم واإلنسان .وهناك موسيقيون عظماء في تراث الموسيقى
الغربية أمثال شومان وسميتانا كتبوا كنوزا للتراث الموسيقي اإلنساني ثم مرضوا واختلت عقولهم!! ..استمروا في
الكتابة الموسيقية فأصبح أمامنا الفارق بين مؤلفاتهم وهم أصحاء ..وإبداعهم الناتج عن اإللهام المجرد ،دون
تدخل صحيح من العقل البشري -الذي كان قد أصبح عليال -ودون مراجعة من القوى العقلية الواعية ..ودون ذاكرة
بشرية سليمة ..فماذا يمكن أن تكون مؤلفاتهم هذه ..؟
الذاكرة هي أساس لكل أنواع النشاط والممارسة الموسيقيين .من الواضح والبديهي أن كالً من التأليف واألداء،
وحتى االستماع ،يعتمد على الذاكرة .فالمؤلف ال يستطيع كتابة أبسط الجمل الموسيقية بفاعلية ذات تأثير إذا لم
يك ن قد سبق له االستماع لمكونات هذا اللحن وتتابعاته الصوتية واإليقاعية والهارمونية ..الخ .وإذا لم يكن بالتالي
قد تمكن من اختزانها في عقله الباطن لتكون تحت الطلب عندما يستدعيها عن طريق الذاكرة ،ويتم ذلك عن طريق
الالشعور ،فيتذكرها المؤلف في عالقات وارتباطات جديدة ..حسب التشكيل الجديد للموسيقى التي يكون بصدد
كتابتها .والعازف ،بالمثل ،تقوم ذاكرته بتوجيه أصابعه ،ويتولى هو استدعاء ما يكون قد استمع له ودرسه من
قبل ..وتكون عملية االستدعاء هذه هي إعادة خلق اللحن الذي يقوم بأدائه ،ألنه يعيد عزفه من خالل ذاكرته وفهمه
وإحساسه .ومن خالل ظروف مختلفة للذاكرة وارتباطاتها النفسية والفسيولوجية بجسم اإلنسان ونفسه ومحيط
حياته ،وسرعة تجاوب جهازه العصبي .أما المستمع ..الذي من أجله يتم كل شيء ..ودونه ال شيء يوجد.
المستمع هذا ،ال يستطيع مثال أن يغني لحنا ما ..وال يستطيع أن يستمتع بأي موسيقى يكون قد استمع لها من قبل،
ما لم يتمكن من تذكر هذا اللحن بدرجة مطابقة لواقعه ،أو أقرب ما تكون إلى هذا الواقع .وأكثر من ذلك ،فإن
عملية االستماع ،حتى للحن جديد ،ال يمكن أن تتخللها متعة ،ما لم يكن المستمع متمكنا بذاكرته (أثناء االستماع)
من ربط ما ي ستمع له بالمكونات الموسيقية التي يكون قد تعرفها مرات عديدة قبل ذلك ..من مكونات مقامية إلى
إيقاعية إلى تلوينات أوركسترالية ،إلى آخر إمكانيات الفن الموسيقي العلمية والوجدانية .ومن كل ذلك ،يتضح لنا
أن الذاكرة الموسيقية هي األساس األول للكيان الموسيقي متمثالً في التأليف واألداء أو االستماع .إن الذاكرة ال
تستطيع أن تعمل أو توجد بدون ارتباطات وعالقات .أي أن عملية االستدعاء لألفكار أو األلحان هي التي تؤدي إلى
تذكير األشياء ..فاالرتباطات ،والعالقات بين األشياء هي وسيلة الذاكرة إلى النشاط والعمل ..وعلى سبيل المثال فإن
صوت جرس المدرسة قد يعيد إلى ذاكرتنا مشهدا من حياتنا المدرسية ربما مرت عليه أعوام طويلة .وبوجه عام،
فإن الليل يذكرنا بالنهار واألبيض باألسود والعاصفة بالهدوء ،أي أننا نذكر الشيء بنقيضه ..مثل السكر والملح..
وقد نذكر الشيء بالشيء المماثل ..فنذكر أن فاكه ة حلوة المذاق .ونتذكر مذاقها عندما نراها أو نسمع عنها أو
نرى الغير يأكلها ..وكذلك ..فإننا نتذكر اللحن عندما نستمع له ..أي أننا نذكر الشيء بالشيء ..وقد نتذكر لحنا
عندما نستمع لصوت آلة موسيقية معينة تكون مشتركة في أدائه ..الخ .ورغم أن الذاكرة الموسيقية توجد عند
القلة بشكل قوي في فترات معينة من العمر ومن تجربة الحياة ،فإن القاعدة العامة هي أن هذه الذاكرة تتكون
وتتدريب وتصقل ..والوصول بها إلى مستوى جيد يمكّن صاحبها من االعتماد عليها في التأليف واألداء أو
االستماع ..وهذا التدريب والتكوين للذاكرة الموسيقية يحصل عن طريق متابعة تقديم المعلومات الموسيقية (في أي
صورة من أشكالها) بانتظام وبوعي يقوم األخير باختزانها والسماح لها بالخروج بمجرد االستدعاء ،أي بمجرد أن
يحاول اإلنسان تذكرها .عندما أصيب شومان بمرضه العقلي الذي أدى به إلى العيش في مستشفى األمراض
العقلية حتى آخر أيامه ،كتب مجموعة من “التنويعات آللة البيانو” .وكان وهو يؤلف هذه الموسيقى يقفز من
فراشه أثناء النوم بعد أن توقظه خياالته“ :أجمل ألحان المالئكة” “ ،وحي إلهي من السماء” ..ويجري إلى الورق
ليدون إلهامه ،الذي قال وكتب ،إنه أجمل موسيقى عرفتها البشرية ،ويتضح أن األلحان التي قال عنها مؤلفها
شومان إنها “أجمل ألحان المالئكة” ..ال تزيد عن أن تكون ألحانا للشياطين ..ألن العقل مريض ..والذاكرة
الموسيقية مشوشة ..تماما كما يروي عباقرة كثيرون ال يعلمون ماذا يفعلون ..ومن مؤلفات شومان وهو مريض
– وهي ليست للنشر وال لألداء – لحن مشوه ..باهت ..ولكنه إعادة فقيرة تنقصها الذاكرة ،إلحدى مؤلفاته العظيمة
التي كتبها قبل مرضه .وهذا نموذج واحد ..يوضح لنا أن اإللهام الحقيقي هو الذي يكون فيه الذكاء والعقل الواعي
متحكما في كل ما يبدعه الفنان .وقد يكون هذا التحكم تلقائيا نتيجة للمقدرة والتدريب الواعي الذي يكون
(الالشعور) قد اختزن خالله المعرفة واإلمكانيات ،والمقومات التي تؤدي -عند استدعائها -إلى تيار متدفق من
اإلبداع الموسيقي الخصب .أما الوحي واإللهام المجردان من مراجعة العقل فإنهما جنون ومرض وتخلف .إن
موسيقى شومان وهو مريض ،تضمنت لحنا ً واحدا ً سليما ً من الناحية العلمية ،أي سليم في تراكيبه ،ألنه يبدو أن
مخزون عقله الباطن من العلوم والتجارب الموسيقية قبل مرضه ،قد سمح لعقله الواعي ببعض الشيء .ولكن
حتى هذا اللحن خرج فقيرا ً في إنسانيته ،خاليا ً من كل نفحة حياة ألن هذه الشعلة المقدسة التي تلهب اإلبداع
الموسيقي بانفعال الحياة قد انطفأت بعد أن أصبح العقل عليال ،واإلحساس وهماً ،قد يقترب من الحقيقة والواقع
لحظة ،ولكنه يبعد عنها سنوات .وفي المكتبة القومية بفيينا ..توجد صفحتان من مدونات بخط يد المؤلف األلماني
العظيم “هوغو فولف” الذي عاش فترة من حياته في مستشفى الدكتور“ -سفتلتغ” لألمراض العقلية .وقد قرر
علماء النفس الموسيقيون أن حالته تماثل حالة شومان ،فأعماله وهو مريض بدائية فقيرة ،مهزوزة ،بينما كان
يعتقد أنها إلهام إلهي نادر .هذا هو نتاج العقل الباطن الذي يعمل بدون تنسيق من عقل واع صحيح ،بل مع ذاكرة
مختلة وذكاء مهدم .أما المؤلف التشيكي سميتانا فقد كانت حالته تثير األسى ،ألنه عاش العشر سنوات األخيرة من
حياته أصما ً – مثل بيتهوفن – ولكنه في العامين السابقين لوفاته ،فقد عقله ،وحاول أن يكمل أحد أعماله التي كان
قد بدأها قبل مرضه ،وكتب ألحد أصدقائه( :إنني أكتب الموسيقى اآلن لسبب واحد فقط ..وهو أن يعرف الناس ماذا
يمكن لمختل مثلي أن يكتب وحتى يكون ذلك تسجيال مفيدا لغيري” .وبالطبع ،فإن الصفحة األخيرة من هذا العمل
الذي كان أوبرا “فيوال” هي تسجيل بشع لنهاية موسيقي عظيم .فقد كان ال يفهم النص الشعري ،وال يعرف هل
يكتب عمال لألصوات البشرية أم لآلالت .الخالصة هي أن الموسيقى فن العقالء ،بل هي قمة الفكر ،ولذلك فهي
قمة الشعور واألحاسيس ،فال يوجد إحساس وال عاطفة إال وخلفهما عقل محرك واع سليم .وطالما قرر المؤلف
الموسيقي األلماني براهمز -الذي عاش في القرن التاسع عشر ،عصر الرومنتيكية -أن الموسيقى هي فن العقل
فقط ،وبالفكر والتحكم العقلي ،تحمل الموسيقى إمكانيات العلوم التي هي هرمونيات جميلة معبرة وإيقاعات نابضة
بالحياة وقوالب معمارية متناسقة ،وألوان أوركسترالية عميقة ورائعة ،أي أنه بالفكر وحده تغني الموسيقى نداء
القلب وأنشودة السالم.
وقبل أن ننتقل إلى موضوع جديد يرتبط أيضا بالموهبة واإللهام وصفة الكتابة الموسيقية ،أرجو أن أشير إلى
أساس اإللهام وأساس الوحي – لو جاز التعبير -وهو الخيال .فالمؤلف الموسيقي يتمتع بخيال خصب يجعله يرسم
بخياله اللوحات الموسيقية ويستمع لها داخليا ،في يقظته وفي نومه ودون أن يستعين بآلة موسيقية .وهذا الخيال
هو بالفعل حالة دائمة مستمرة ترافق الفنان وتظل معه حتى تتبلور خياالت المؤلف في ما يسمى باإللهام الذي
يؤدي إلى إبداع المؤلفات الموسيقية .ومن المهم أن أوضح أن الدراسة والعلم والحالة الذهنية الصحيحة هي التي
تؤدي إلى الخيال الخصب ،ألن الخيال يرسم صورا ً ويضع تخطيطا ً للمؤلفات ،وينتقي القفالت وذروة االنفعال
ويؤدي إلى الرنين واالستماع الداخلي ،ويحول صورة الطبيعة إلى عالم هائل من األصوات ،ويبني من الموسيقى
ذروة اتصال وإلهام وإبداع ،وال يمكن أن يكون كل ذلك جميالً وسليما ً إال إذا كان العقل يحتفظ بخبرات سابقة
مدروسة ومنظمة ،فالخيال اإلنساني صورة متجددة لما يستدعيه العقل من الخبرات المختزنة في الالشعور.
فالشيء بالشيء يذكر ،وأحيانا ً يذكر الشيء بنقيضه ،فيعمل الخيال الصحيح من منطلق العقل الصحيح والعلم
والمنطق الذي ينظم األحداث والرؤى في الخيال ويؤدي إلى لحظة اإللهام ،وهي لحظة تتبلور فيها المشاعر
والخياالت المحكومة بالخبرات السابقة وبالذاكرة ،إنها عملية شديدة التعقيد في تفسيرها ،ولكنها بسيطة عبقرية
ملهمة بالخيال الموسيقي المتموج في كيان المؤلف والعازف والمستمع .وكما أن العقل السليم في الجسم السليم،
فإن الخيال السليم ال يكون إال بالعقل السليم والعلم.
المصدر :موقع خالد ترمانيني األلكتروني